8. انفتاح:
فما زاد الفتى على ان ابتسم في وجهي
ابتسامة الهزء والصخرية ، وقال: تلك حماقات ماجئنا الا لمعالجتها فلنصطبر
عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها.
فقلت له: لك أمرك في نفسك واهلك فاصنع بهما ماتشاء ، وائذن لي أن أقول لك :
اني لاستطيع ان أختلف الى بيتك بعد اليوم ابقاءً عليك وعلى نفسي ! لأني اعلم
أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امراة من أهلك
تقتلني حياء وخجلاً.
ثم انصرفت ،وكان هذا فراق مابيني وبينه.
وماهي الا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله
بين نسائه ورجاله ، وان بيته أصبح مغشياً لاتزال النعال خافقة ببابه ،فذرفت
عيني دمعة لا أعلم : هل هي دمعة الغيرة على العرض المُذال أو الحزن على
الصديق المفقود؟
9. جريمة:
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا
أزوره فيها ، ولا يزورني ، ولا ألقاه في طريقة الا قليلاً فأحييه تحية الغريب
للغريب ، من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ، ثم أنطلق في سبيلي.
فاني لعائد الى منزلي ليلة أمس ، وقد مضى الشطر الأول من الليل ، اذ رأيته
خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما
هو يحرسه او يقتاده فأهمني امره ،ودنوت منه فسألته عن شأنه؟ فقال:
لا علم لي بشئ سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني الى مغفر الشرطة
، ولأعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً ، وما أنا بالرجل المذنب ،
ولا المُريب ، فهل أستطيع أن أرجوك ياصديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن
تصحبني الليلة في وجهي هذا ، علني أحتاج الى بعض المعونة فيما قد يعرض لي
هناك من الشؤون؟
قلت : لا أحب الي من ذلك.
ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ، ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يُزور في نفسه
كلاماً يريد ان يُفضي به الي فيمنعه الخجل والحياء ، ففاتحته الحديث ، وقلت
له : ألا تستطيع أن تتذكر لهذه الدعوة سببا؟
فنظر الي نظرة حائرة ، وقال : إن أخوف ما أخافه ان يكون قد حدث لزوجتي الليلة
حادث: فقد رابني من أمرها انها لم تعد الى المنزل حتى الساعة ، وما كان ذلك
شأنها من قبل.
قلت :أما كان يصحبها أحد؟
قال: لا.
قلت: ألا تعلم المكان الذي ذهبت اليه ؟
قال: لا .
قلت : ومم تخاف عليها؟
قال: لا اخاف شيئاً سوى اني اعلم أنها امرأة غيور حمقاء ، فلعل بعض الناس
حاول العبث بها في طريقها فشرست عليه ، فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها الى
مخفر الشرطة.
وكنا قد وصلنا الى المخفر ، فاقتدنا الجندي الى قاعة المأمور ، فوقفنا بين
يديه ، فأشار الى جندي أمامه اشارة لم نفهمها ، ثم استدنى الفتى اليه وقال
له: يسوؤني أن أقول لك ياسيدي : ان رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من
أمكنة الريبة برجل وامراة ، في حال غير صالحة ، فاقتادوهما الى المخفر ،
فزعمت المرأة أن لها بك صلة ، فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها ، فان كانت
صادقة أذنا لها بالانصراف معك اكراماً لك، وابقاء على شرفك ، والا فهي امرأة
عاهرة لانجاة لها من عقاب الفاجرات ، وها هما وراءك فانظرهما .
وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى، فالتفت وراءه فاذا المرأة زوجته ،
واذا الرجل أحد أصدقائه !! فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر ، وملأت نوافذه
وابوابه عيوناً واذانا ، ثم سقط في مكانه مغشياً عليه ،فأشرت على المأمور أن
يرسل المراة الى منزل أبيها ، ففعل ، وأطلق سبيل صاحبها .
ثم حملنا الفتى في مركبة الى منزله ، ودعونا له الطبيب، فقرر انه مصاب بحمى
دماغية شديدة ، ولبث ساهراً بجانبه بقية الليل يُعالجه حتى دنا الصبح ،
فانصرف على أن يعود متى دعوناه ، وعهد الي بأمره فلبثت بجانبه أرثى لحاله ،
وأنتظر قضاء الله فيه، حتى رأيته يتحرك في مضجعه ، ثم فتح عينيه فرآني ، فلبث
شاخصاً إلي هنيهة كأنما يحاول أن يقول لي شيئاً فلا يستطيعه ، فدنوت منه وقلت
له :
هل من حاجة ياسيدي؟
فأجب بصوت ضعيف خافت : حاجتي ان لا يدخل علي من الناس احد.
قلت : لن يدخل عليك الا من تريد.
فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان بالدموع.
فقلت: ما بكاؤك ياسيدي ؟
قال : أتعلم أين زوجتي الآن؟
قلت : وماذا تريد منها؟
قال: لاشئ سوى أن أقول لها : اني قد عفوت عنها .
قلت : انها في بيت أبيها .
قال: وارحمتاه لها ولأبيها ولجميع قومها ، فقد كانوا قبل أن يتصلوا بي شرفاء
أمجاداً، فألبستهم مذ عرفوني ثوباً من العار لا تبلوه الأيام.
من لي بمن يبلغهم عني جميعاً أنني مريض مُشرف وأنني أخشى لقاء الله ان لقيته
بدمائهم ، وأنني اضرع اليهم ان يصفحوا عني ويغتفروا زلتي ، قبل ان يسبق الي
أجلي ؟
لقد كنت أقسمت لأبيها يوم اهتديتها أن أصون عرضها صيانتي لحياتي ، وأن أمنعها
مما أمنع منه نفسي ، فحنثت في يميني! فهل يغفر لي ذنبي ، فيغفر لي الله
بغفرانه؟
نعم إنها قتلتني ! ولكنني أنا الذي وضعت في يدها الخنجر الذي أغمدته في صدري
فلا يسألها احد عن ذنبي !
البيت بيتي ، والزوجة زوجتي ، والصديق صديقي ، وانا الذي فتحت باب بيتي
لصديقي الى زوجتي ، فلم يذنب إلىٌ احد سواي.