مصرية "مجهولة النسب" تهب حياتها لإنقاذ المرضى
محمد لا يعرف أمل، ولم يقابلها في حياته أبدا، فإنهما مرّا بنفس الظروف، وهزتهما صدمة واحدة، تمكنا من تجاوزها وتحقيق أملهما في الحياة."أمل عبد الرحمن" هذا هو اسمها الذي عاشت به بين الأهل والأقارب وزملاء الدراسة، حيث نشأت في بيت يحظى بنعمتى الثراء والسعادة لأم أغدقت عليها بكل مشاعر الدفء والحنان، وأب كان يرضيها ويسعى لإسعادها لأجل هذه الأم التي كان يحبها كثيرا.
غرفتها الخاصة كانت تكفى لأن يعيش بها عشرة أطفال، تمتلئ لعبا وصورا لها وهدايا أهدت لها في المناسبات وفي غيرها. أما مدرسة اللغات التي كانت تتعلم بها فكانت بمثابة حلما لآخرين من أقرانها.
كابوس مفزع
وبين عشية وضحاها انقلب الواقع إلى كابوس لا تقوى على تحمله، فقد مرضت أمها حسبما كانت تعتقد ولم تمكث كثيرا حتى ماتت. وبعد مضي أسبوع فقط أخذها الخال الذي كان يحتل مكانته في قلبها بعد الأم مباشرة في نزهة بصحبة الأب للتخفيف عنها.
ودلفوا جميعا إلى مبنى مليء بالبنات من الأعمار كافة وتركوها معهن ريثما يتحدثان إلى المسؤولين في المكان ويعودا إليها، ولكنهم لم يعودا حتى الآن.
فيما بعد أخبرتها المشرفة على المبنى (دار رعاية الأيتام) أن أهلها الذين تركوها دون وداع لم يكونوا أبدا أهلا لها، وأن الأم الراحلة ليست أمها، وأنها جاءت هذا المكان منذ ثلاثة عشر عاما واصطحبتها معها كي تتبناها.
ساعتها عرفت أمل لماذا كان اسمها "أمل عبد الرحمن" رغم أن أباها (زوج أمها التي رحلت) اسمه "عبد الله"، وأنها كانت غبية جدّا حتى إنها لم تسأل عن السبب في هذه المفارقة طوال تلك الفترة.
أمل بكت وامتنعت عن الطعام وحاولت الاتصال بخالها الذي أغلق الهاتف في وجهها مرارا، ولكنها لم تكف عن الاتصال به حتى قال لها: "يا بنتي أنا لست خالك. أنت لا تفهمين؟!".
مرت عليها الأيام وحيدة تعيش فيها ذكريات الماضي، فلم يمثل أمامها شيئا قدر الحب الحقيقي الوحيد الذي رحل عنها برحيل أمها البديلة، وأشفقت الفتاة على هذا الحب وتلك الرغبة في إسعادها، والتي حاولت السيدة الراحلة توفيره لها بكل الطرق.
وخلال تواجدها بالدار، أنهت أمل المرحلة الإعدادية، واختارت ثانوي التمريض، لكي تحصل على فرصة مضمونة لعمل إنساني.
وبعد أن تخرجت من دراسة التمريض التحقت للعمل بمستشفى "أحمد ماهر" التعليمي بالقاهرة، وتمتعت بحب شديد من الزملاء والمرضى وذويهم، حيث ساعدتها طبيعة عملها في أن الإحساس بآلام الناس.
ولم يمر على عملها الكثير حتى التقت بفتى أحلامها ليؤسسا معا أسرة صغيرة، منحتها كل المشاعر التي سرقت منها، في الوقت الذي أصرت فيه على الاستمرار في مهنتها وتقديم العطاء لمن يستحق، رغم إنجابها لأكثر من طفل.
ابن بالتبني
قصة محمد لا تختلف كثيرا عن أمل سوى في قوة الصدمة وبالتالي قوة رد الفعل، هذا إضافة إلى أن محمد كان يعلم أنه ابن بالتبني، وإن كان لا يدرى من أين أتت به تلك الأسرة التي تربى بداخلها.
فقد كان أبوه بالتبني رئيس مدينة سياحية مهمّة، وكانت الزوجة لا تنجب، فاختارت محمدا ابنا لها، وحين ماتت لم يكتف الأب البديل من طرده إلى الشارع، وامتناعه عن تشغيله في عمل كان قد وعده به بحكم علاقاته قبل وفاة الأم، بل سعى وراء الشاب في كل مكان يذهب إليه للإقامة حتى يتم طرده منه.
وبذل الرجل كل جهده كي يغلق أمام محمد كل باب حاول طرقه ليجد لنفسه عملا، رغبة في أن يهجر محمد المدينة بأسرها، ربما لأنه أراد أن يمحو أي صورة تذكره بالابن "الزائف" خاصة أنه تزوج ثانية وأوشك أن يصبح أبا حقيقيا.
محاولة الانتحار
لم يجد محمد لنفسه مخرجا فلا مأوى ولا عمل فحاول الانتحار، فإن رحمة الله أدركته، وبمجرد أن عاد وعيه إليه بالمستشفى ندم كثيرا واكتشف أن الحياة أغلى كثيرا من أن يدفعه شخص لتركها.
وهنا طلب محمد من الأطباء في المستشفى مساعدته على معرفة دار الرعاية التي آوته وهو طفل صغير، والتي خرج منها رضيعا لبيت ذلك الأب، وبالفعل توصل إليها وقرر أن يعمل بها مشرفا على أقرانه من الصبية والأطفال.
ونجح محمد في أن يكتسب حب الأطفال بالدار، حتى إنه جعل الحياة تدب في أوصال المبنى الذي لم يكن أحد يلتفت إليه. فقد استطاع أن يجتذب المتبرعين إليه وأن يقدموا يد الخير والمساعدة، مما مكنه من عمل غرفة للترفيه وتأجير ساحة المبنى كقاعة للأفراح أيضا.
ونتيجة للأخلاق الطيبة التي اشتهر بها محمد، فقد تزوج فتاة من أسرة طيبة، ليؤسسا معا أسرة على أساس متين من الحب والرحمة والرغبة في إسعاد الآخرين، خاصة أطفال دار الرعاية الذين أصبحوا ضيوفا دائمي التردد على منزله.