ا
ومنها : أنه إذا كان هذا حال أولياء الله في دنياهم وقد أعطى أعداءه من البسط في دنياهم ما لا يوصف علم حقارة الدنيا وهوانها على الله وتكشفت له على حقيقتها
وذلك برهان على أن قدرها *** جناح بعوض أو أدق وألأم
وأعجب من ذا أن أحبابها الألى *** تهين وللأعداء تراعي وتكرم
وحسبك ما قال الرسول ممثلا *** لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان في اليم إصبعا *** وينزعها منه فما ذاك يغنم
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** على حذرمنها وأمري محكم
ومنها : " أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال , فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال , وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته . فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة , وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية, فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه فإما أن يخرج تبرا أحمر وإما أن يخرج زغلا محضا وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبا خالصا, فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبرا خالصا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره ؟! " [5]
ومنها : حسن التوكل على الله عز وجل من آثار الإيمان بتوحيده في اسمه القابض ، وسبب في الفرج وسعة الرزق ، فكل ما يناله العبد من الخير والعطاء فهو رزقه في سابق القضاء ، وما كتب له في اللوح سيصله بالتمام ، والمكتوب أزلا لن يكون لغيره من الخلق أبدا ، ومن ثم يصبر عند البلاء ويشكر عند الرخاء ، روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَقُولُ اللهُ تعالى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ ) [6]
ومنها : أن يوقن أن الذي أعطى غيره لا يعجزه أن يعطيه مثلهم ولا يمتنع عليه ذلك كيف لا وهو الذي بيده سبحانه الملك كله وعلى العبد أن يسعى في دفع الفقر عنه وليبشر ببشارة النبي وليحذر من فتنة الدنيا فليس الفقر هو الذي يخشى على العبد منه ولكنما يخاف العبد من زينة الدنيا ؛ روى لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ( أَنَّ رَسُولَ اللهِ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللهِ , فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ : أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ ) [7]
قال إبراهيم بن أدهم :" طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى , وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر" [8]
ومنها : أن يثني على ربه في عطائه ومنعه فالعطاء والمنع من موجبات حمده ويلهج بالدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في أشد أيامه صعوبة وأكثره جراحا : ( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِي عَلَى رَبِّى، فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفاً فَقَالَ : اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ ، اللهمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِي لِمَا أَضْلَلْتَ ، وَلاَ مُضِل لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ ، اللهمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ ، اللهمَّ إني أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ ، اللهمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ ، اللهمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ ، اللهمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رَجْزَكَ وَعَذَابَكَ ، اللهمَّ قَاتَلِ الْكَفَرَةَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَهَ الْحَقِّ )[9][10]
*/ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم . قسم السنة
28/6/1428
________________________________________
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة
[2] زاد المسير لابن الجوزي 6/246 بتصرف . وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122ـــ 123
[3] متفق عليه والقرظ: ما يدبغ به الجلد , والمصبور: المجموع على هيئة الصبرة , والأهب : القرب وهي أوعية الماء
[4] متفق عليه
[5] طريق الهجرتين ص417
[6] البخاري في الرقاق ، باب العمل الذي يبتغي به وجه الله فيه سعد 5/2361 (6060) .
وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122- 123
[7] البخاري في الجزية ، باب شهود الملائكة بدرا 4/1473 (3791) .
[8] طريق الهجرتين ص85
[9] عند أحمد وصححه الألباني من حديث ابن رفاعة الزرقي رضي الله عنه الذي تقدم ذكره في اسم الله القابض وفيه بتمامه أكثر من دعاء بالوصف حيث قال رضي الله عنه أحمد في المسند 3/424 ، وصححه الألباني في الأدب المفرد (699) .
[10]وانظر الأسماء الحسنى د/ الرضواني 5/122- 123و 4 /116- 117