التواب جل جلاله (1)
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أكرم خلقه أجمعين وبعد :
فالتواب من أسمائه سبحانه الشريفه فهو الذي يسر أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما يظهر لهم من العبر والآيات , وبما يقذف في قلوبهم من محبة الإنابة إليه , وبما يريهم من غوائل المعاصي, وآثار السيئات , فتنكسر حينئذ قلوبهم , وتندم له أفئدتهم , وتذل جوارحهم , وتستغيث ألسنتهم بربها مناديةً له بما ناده به نبيه وكليمه موسى - عليه السلام- : { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمين }
فيقبل التواب منهم توبتهم كلما عادوا إليه ولا يستكثر ذنباً أن يغفره ولا سوءاًً أن يمحوه ,ولا يستعظمه جرم أن يتجاوز عنه مهما بلغ الجرم مداه , وكل هذا يحصل لمن عصاه وفرط في جنبه .
قال ابن القيم :" إن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها ، فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة ، فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقاوإلهاما ، فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة ، قال تعالى : { وَعَلَى الثلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِن اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:118] ، فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم ، وأنها هي التي جعلتهم تائبين ، فكانت سببا ومقتضيا لتوبتهم ، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم ، فالعبد تواب والله تواب ، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق ، وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق ، وقبول وإمداد [1] ، قال ابن القيم :
وكذلك التواب من أوصافه : والتوب في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبـــده وقبولها : بعد المتاب بمنة المنان [2] .
فوالله إنه لكرم بالغ ومنة متناهية أن يبادر الربُّ عبده بالتوبة والغفران وهو من هو غنى وسؤددا , ولو اكتفى ربنا بهذا لكان شرفا بالغا لا يتطلع العبد المقصر إلى سواه ,فكيف إذا انضم إلى ذلك فرح شديد من الرب بتوبة عبده وإنابته إليه , بل إن هذا الفرح منه سبحانه لعبده المقصر الذي جاء مسرعا خائفا أشد فرحا من عبد أيس من الحياة , في أرض فلاة , فقد جميع المقومات, فاضطجع تحت الشجرة موقنا الممات ؛ فانتبه فإذا دابته فوق رأسه فيها طعامه وشرابه , فهل هناك عبارة تصف فرحته بحياته بعد أن رأى الموت؟! ففَرَحُ ربنا سبحانه بنا إذا عدنا إليه أشد من هذا بحياته . يا سبحان الله أكل هذا ينتظر التائبين ؟! نعم بل وزيادة.. أن يبدل للتائب عدد ما فات من السيئات بنفس أعدادها حسنات ، قال تعالى : {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان:71].
فلم البعد والتواني , ولم الصدود والرضا بالفاني , فهذا وقت التوبة وعما قليل سنرحل , ويعاين أحدنا في قبره منزله الذي أعد له ويأتيه من روحه وريحه إن كان من أهل السعادة وإن كان من أهل الشقاوة فتح له منزله من النار فرآه وآته من سمومه وهواه .
فأعيذك بالله أن تكون ممن يقول حين يرى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين .
فمن يحول بين العبد وبين التوبة إذن؟ فليس هناك ما يحول يين العبد وبين توبته إلا عدوه , وهو يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير , فاطمع في رجاء ربك وأسلم قلبك ووجهه إليه , وانظر إلى من لم يعمل خيرا قط , ونشأ في الضلال والعدوان على الدماء البريئة , ودأبت نفسه الاستهتار بالنفوس المعصومة سفكا وقتلا , يوما بعد يوم حتى أكمل المائة . فلم يتردد في التوبة بعد كل هذا ولم يصده ذلك أن يعود إلى مولاه التواب, فهل ردت توبته وأغلق في وجهه الباب ؟ كلا وربي . وانظر ماذا جرى من فم المصطفى فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا , فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ , فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: "إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ" ؟ فَقَالَ : "لَا " , فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً . ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ , فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ : "إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ , فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ" ؟ فَقَالَ : "نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ" . فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ , فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ :" جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ". وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ:" إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ " , فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ :" قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ" , فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ . فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ))[3] .
وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ : ( قَالَ الله : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً )[4].
وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها : ( يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ بلغني عَنْكِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً ، فَسَيُبَرِّئُكِ الله ، وَإِنْ كُنْتِ أَلمَمْتِ بِذَنْبٍ ، فاستغفري الله وتوبي إِلَيْهِ ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ ، تَابَ الله عَلَيْهِ ) [5].
و لا زلنا في زمن الإمهال وستغلق الأبواب بعد أيام محدودة وآجال عند المولى معلومة وأخبر عنها أنها قريبة , وقد مد الله التوبة للعبد إلى حضور أجله ما لم تغرغر نفسه , قال سبحانه : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء:17/18]
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ قال : ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) [6]،
أو تطلع الشمس من مغربها ، فعن أَبِي مُوسَى رضي الله عنه مرفوعا : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) [7]. وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ الله عَلَيْهِ )[8].
وليس بعد التوبة وعفو الله إلا العذاب وكل ذلك متعلق بمشيئته سبحانه راجع إلى علمه وحكمته لقوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيم ٌ} [التوبة/106]
قال المزني: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها فقلت له :" كيف أصبحت؟" فقال :أصبحت من الدنيا راحلاً , ولأخواني مفارقاً , ولكأس المنية شارباً ,ولسوء أعمالي ملاقياً وعلى الله وارداً , فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشد:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلــما قـرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجـــود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغــوى بإبليس عابد... فكيف وقد أغوى صفيك آدما
فإن تعف عني تعف عن متهتك ... ظلوم غشـوم لا يزايل مأثما
وإن تنتقــم مني فلست بآيس ... ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما
قال الذهبي إسناده ثابت عنه[9] ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وللحديث بقية بإذن الله.
*/ عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم . قسم السنة
13/11/1428
--------------------------------------
[1] مدارج السالكين1/312 .
[2] شرح قصيدة ابن القيم 2/231 .
[3] متفق عليه واللفظ لمسلم
[4]الترمذي في الدعوات ، باب في فضل التوبة والاستغفار ح 3540
[5] البخاري في المغازي ، باب حديث الإفك 4/1521 (3910) .
[6] الترمذي في الدعوات ، باب في فضل التوبة والاستغفار5/547 (3537) ، وانظر حكم الشيخ الألباني على الحديث في صحيح الجامع (4338) .
[7] مسلم في التوبة ، باب قبول التوبة 4/2113 (2759)
[8] مسلم في الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه 4/2076 (2703) . انظر الأسماء الحسنى للرضواني 3/103
[9] الوافي بالوفيات 1 / 225 تاريخ دمشق 50 / 332 سير أعلام النبلاء 10 / 76