أجرى أكثر من ألف عملية جراحية لضحايا المعارك
ثورة الجزائر تصنع من ممرض طبيبا ينقذ حياة المقاومين
كما أن الثورة التي قادها المقاومون ضد الاحتلال الفرنسي في الجزائر كانت سببا في خروج المحتل وعودة الأرض لأهلها في 1962 فإنها كانت سببا أيضا في تحول مواطن جزائري من مجرد ممرض يمارس عمله مثل باقي زملائه إلى طبيب محترف تمكن من إنقاذ حياة مئات المقاومين.
محمد الشريف خير الدين، هو ذاك الرجل الذي صنعت منه المحن وضرورات الثورة جراحا ماهرا، يعيش الآن على ذكرى هذه الأيام.
ويستعيد خير الدين بعد نصف قرن تلك الذكريات، موضحا أنه لم يكن سوى مجرد ممرض في مستشفى لافيجري بمدينة القنطرة في ولاية بسكرة، عمل خلالها خمس سنوات في قسم الجراحة، وخمس أخرى في قسم العمليات.
وقد شكل عمل خير الدين بالمستشفى قاعدة خلفية للمقاومين الذين كانوا في حاجة ماسة للدواء، لمداواة جرحى المعارك المستمرة مع العدو، في ظل سياسة الأرض المحروقة التي طبقها الاحتلال ضد الجزائريين، بحسب صحيفة الشروق الجزائرية.
ومن هنا استغل خير الدين الفرصة لإمداد إخوانه في المقاومة بما أمكن من الأدوية وأدوات العلاج بعيدا عن أعين جنود الاحتلال ومسؤولي المستشفى.
وفي بداية الأمر كانت حاجة الثورة لبقاء خير الدين في المستشفى الفرنسي أهم من التحاقه بالمقاومين في الجبل، نظرا لما كان يقدمه لهم من أدوية وأدوات الجراحة.
لكن اكتشاف عيون المستعمر لشحنة أدوية كانت مهربة من المستشفى في طريقها للجبل، جعلت خير الدين في مقدمة المطلوبين لدى الجيش الفرنسي بعد معرفته مصدر المواد المهربة بسهولة، الأمر الذي حتّم عليه الالتحاق برفاقه في الفيافي.
وبالفعل أصبح خير الدين أحد رفاق العقيد الشهيد سي الحواس، الذي عيّنه طبيبا للكتيبة.. ولما كثرت المعارك وزاد عدد الجرحى كان يقوم بعلاجهم في مستشفى متنقل بالجبل.
وفي ظل تزايد الحاجة للدواء، لم يجد خير الدين من حل سوى اللجوء لبعض الممرضات الجزائريات اللواتي كنّ يعملن بالمستشفيات الفرنسية، غير أن ذلك لم يكن كافيا لسد الحاجات المتزايدة، الأمر الذي اضطره للجوء إلى أحد الصيادلة اليهود في بسكرة مقابل منفعة أخرى يحصلها الصيدلي.
بالأعشاب عالج حروق النابالم
ورغم محاولات تنويع مصادر توريد الأدوية، إلا أنها لم تكن كافية لتلبية متطلبات المستشفى المتنقل، لا سيما بعد أن لجأت القوات الفرنسية إلى أسلحة فتاكة، على غرار قنابل النابالم التي تصيب ضحيتها بحروق غائرة.
عندها لجأ خير الدين إلى الأعشاب وزيت الزيتون لمداواة حروق النابالم، كما عمد إلى تصنيع الضمادات الموجهة لجبر الكسور، بأدوات بسيطة وتقليدية.
ومن أغرب ما واجه خير الدين، حالة مقاوم أصابته رصاصات في رأسه ففقد بصره ولم يعد قادرا حتى على الأكل، وقتها لم يجد من وسيلة لإنقاذ حياة هذا الجريح، في ظل غياب الإمكانات، سوى حفر حفرة وضعه فيها بشكل يمنع رأسه من أية حركة.
وقام بإخاطة فمه ونزع أحد ضروسه حتى يتمكن من إدخال أنبوب إلى بلعومه لإطعامه بالحليب، قبل أن يكلف أحد المقاومين بصب الماء على رأسه كل نصف ساعة لحمايته من الحرارة.. وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما استعاد هذا المقاوم بصره وصحته.
أكثر من ألف جراحة
وقد وصلت العمليات الجراحية التي أجراها المقاوم الجراح في الجبل إلى أكثر من ألف عملية في ظروف في غاية الصعوبة.
ومع اشتداد المعارك وتزايد عدد الجرحى اقترح خير الدين على قائد الولاية السادسة، العقيد الحواس، إقامة مراكز لتخريج جراحين وممرضين.
وبالفعل تمكن من تخريج أول دفعة تضم من ستة إلى سبعة ممرضين وفنيين في الصحة، ما مكّن من تزويد كل كتيبة بممرض، وهي خاصية امتازت بها الولاية السادسة، التي لم ترسل ولو مريضا واحدا للعلاج بالخارج، على عكس بقية الولايات التاريخية الخمس الأخرى.