- ربما أجد امرأة مثلي لا تنجب، أو أرملة تحتاجني ظلا تأوي إليه، هي وصغارها،
وأحتاجها شريكة عمر لما بقى من العمر.
عادا إلى الفندق، وكانت ليلة عجيبة، تبادلا فيها الدموع إلى الفجر. في الصباح
كانت الطائرة تقلهما عائدين. قالت له:
- كيف أنساك؟
- تعودي أن تتذكري أجمل ما تعرفين عني، لأني سأفعل الشيء نفسه. نحن دائماً في هذه
الحياة نحتاج إلى أن نحتفظ في ذاكرتنا بصور جميلة، لأناس ولمواضيع، لنواجه فيها
القبح المنتشر في كل مكان. لأنه متى ما حاصرتنا الصور القبيحة، سواء أكانت حسداً،
أم حقـدا، أم ظلماً، أم نفاقاً، نهرع إلى الصور الجميلة في ذاكرتنا، لنقاوم بها
هذا القبح. وليس هذا فقط، إنه إن لم يكن لدينا معيارية نحتكم إليها، فستختلط
علينا الأمور، فنحسب الوقح جريئاً، والبخيل مقتصداً، والمنافق دبلوماسياً،
والأناني ذكيا، والفجور حرية شخصية.
الصور الجميلة التي نحتفظ بها في ذاكرتنا، هي التي تمنحنا المعيارية التي نفضح
بها القبح، ونعريه، ونكشف بشاعته. أنت تتربعين في ذاكرتي، صورة في منتهى البهاء،
والجمال، للمرأة الوفية، الصابرة، المؤدبة، المضحية، العاملة بصمت. كلما ضيق
الزمان على خناقه، وأنا أعلم أنـه لابـد فاعل ، سأهرع إلى هذه الصورة الجميلة،
أهرب إليها سويعات، أو ربما لحظات، أرجو أن أكون لديك كذلك، وإن كنت أتمنى ألا
تضطري لمثل هذا.
حينما وصلا، قال لها وهم في الطريق إلى بيت أهلها :
- ليس أصعب علي من أن أقول لك وداعا، والذي يمزق قلبي أني سأودعك بكلمة ليست
بغيضة إلى قلبي فقط، بل إلى الله سبحانه.
- ألا تنتظر يوما أو يومين..؟
- الانتظار يزيد عذابي.
عند الباب سلمها مفتاح منزلهما وقال:
- هذا مفتاح البيت، أنا لن أعود إليه، كل ما فيه لك.. وداعاً.. سأظل أذكرك،
وأتابع أمرك من بعيد.. سلامي للأهل.. نحن الآن...
وخنقتـه العبرة ولم يكمل ، شد على يدها، ثم استدار منصرفا، فَعَلا نشيجُها، وهي
ترمقه، يتجه نحو السيارة. ما هي إلا لحظات حتى كانت هي، والشارع، والفضاء،
والوحشة.
وقعت مريضة أياما عدة، تقلبها آلام الصدمة. أهلها، باستثناء إحدى أخواتها،
تعاملوا مع الحدث بكثير من البلادة. رأوا فيه نهاية طبيعية لزواج غير ناجح.
- ما هي معايير النجاح..؟
قالت أختها أسماء، محتجة على موقف بعض أفراد الأسرة، الذين اعتبروا كلام أمل عن
الحب والوفاء، نوعا من السذاجة. شقيقها خالد، الذي كان قد هدد زوجته مرة بالطلاق،
إن هي لم تنجب له ولداً، حسب المسالة بطريقة مختلفة، قال :
- الحب تستطيعين أن تأخذيه من القصص، والمجلات، أما الأطفال فلا يمكن أن نحصل
عليهم من البقالة أو الصيدلية.. أنت محظوظة أَن تخلصت منه، والرجل بدله رجل.
قالت أسمـاء، محاولة أن تخفف من وطأة كلام خالد على نفس أمل المتعبة، وقلبها
الجريح:
- هذا كلام يفتقد لأدنى المشاعر الإنسانية. هل الإنسان مجرد آلة تفريخ، إذا
تعطلت، أو لم تنتج النوعية التي نريدها، (وهي هنا تلمزه في موقفه من زوجته)، نقوم
برميها واستبدالها بغيرها..؟
مرت شهور، أو ما يقارب السنة، تزوجت بعدها أمل من رجل أرمل لديه ثلاثة أطفال.
اختارته من بين عدد ممن تقدموا لخطبتها. لم تستمع لكثير من النصائح، التي اقترحت
عليها أن تنتظر أكثر، حتى يتقدم إليها شاب أصغر سناً، وليس معه أطفال، خاصة وأنها
ما زالت شابة في عشريناتها. هي تعرف معنى أن تكون "مطلقة" في مجتمع استهلاكي،
ينظر لكل شيء، من البشر إلى الجماد، نظرة مادية، تقوم على مفهوم (الجدة
والاستخدام). أليس خالد أنموذجا صارخا من هذا المجتمع، الذي تبدو فيه أسماء،
بأخلاقياتها الراقية، كطير يغرد خارج السرب .؟
انقضى عام على زواجها، وخيال أحمد تلاشى، أو يكاد من بالها، وها هو ثمرة زواجها،
جنين يتحرك في أحشائها، تنتظر قدومه بلهفة، في غضون اشهر معدودة. هل علاقاتها
الطيبة بزوجها.. أم هذا الطفل الذي تترقب وصوله، هو الذي أنساها أحمد؟ تصرمت
الأشهر ورزقت بطفلها الأول.
لذة الاطفال لا يعدلها شيء.
- إنه ولد جميل.. نسميه "أحمد" ؟ قال زوجها.
كأنما استيقظت من حلم، فردت بسرعة:
- أحمد؟ .. لا .. لا غير أحمد.
قال زوجها متسائلا:
- ما به أحمد ؟. إنه اسم جميل.
امتقع لونها، وتذكرته، بل تذكرت ليلتهما الأخيرة في المسجد النبوي.. عبارته تدوي
في رأسها "لن أكون أنانيا، من حقك أن يكون لديك أطفال". اعتصر قلبها الألم
وداهمتها خاطرة: "ماذا لو علم زوجها بهذا الموقف الذي وقفه زوجها الأول أحمد...
كيف سيفسر قبولها باسم "أحمد"..
لا شك انه سيعتقد، أو أن بعض السيئين سيصور له، أنه تعلق منها بأحمد، زوجهـا
الأول . لا .. لا احتراماً لذكرى الأول، ولكرامة الثاني، أي اسم إلا أحمد.
- هل يمكن أن نسميه محمد.. أحب هذا الاسم؟ سألته بعينين يملؤهما الاستعطاف.
ابتسم..
- على بركة الله.
سحبت آهة من أعماقها وقالت، وهي تنزل رأسها بهدوء على الوسادة..: - الحمد لله .
أربعة أعوام مرت على انفصالها عن أحمد. كل شيء أصبح في ذمة التاريخ.. الأفكار،
الذكريات، الخيالات، هكذا تبدو الأمور. ابنها محمد الذي بدأ يخطو خطواته الأولى،
يمثل لها مستقبلا، وقطيعة لا شعورية مع الماضي.
لم تعد تفكر، ولو لمرة واحدة، أن حياتها الجديدة، التي كان من ثمرتها هذا الطفل،
الذي يتفتح كزهرة، لم يكن نتيجة قرار اتخذته هي وحدها، بل يشاركها فيه، إن لم يكن
مسئولا عنه كلية، شخص أطفأ قلبه ليوقد لها شمعة، واجتث السعادة من أعماقه لتتفتح
لها هذه الزهرة.
الليلة لديهم مناسبة سعيدة. شقيقة زوجها ستتزوج، وهي مشغولة بالاستعداد للمناسبة
وتجهيز الأطفال. دق جرس الهاتف، رفعت السماعة:
- من .. هدى..؟ وعليكم السلام.. فعلا أنا مشغولة كما تعلمين. لن تستطيعي الحضور..
خير إن شاء الله..