الشبهة التاسعة
قولهم: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
جواب الشبهة التاسعة
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من كفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكذب به، فهو كمن كذب بالجميع وكفر به، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميع الأنبياء لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً)) [سورة النساء: 150-151] وقوله تعالى في بني إسرائيل: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)) [سورة البقرة:85].
فمن أقر بالتوحيد وأنكر وجوب الصلاة فهو كافر، ومن أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة فإنه يكون كافراً، ومن أقر بوجوب ما سبق وجحد وجوب الصوم فإنه يكون كافراً، ومن أقر بذلك كله وجحد وجوب الحج فإنه كافر والدليل على ذلك قوله تعالى: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ – يعني من كفر بكون الحج واجباً أوجبه الله على عباده – فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [سورة آل عمران:97].
ومن أقر بهذا كله، ولكنه كذب بالبعث فإنه كافر بالإجماع لقول الله تعالى: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [سورة التغابن:7].
فإذا أقررت بهذا فاعلم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة، والزكاة، والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذا الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟
سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل!
فمنكر التوحيد أشد كفراً وأبين وأظهر.
وها هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذنون ويصلون وهم إنما رفعوا رجلاً إلى مرتبة النبي، فكيف بمن رفع مخلوقاً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟
أفلا يكون أحق بالكفر ممن رفع مخلوقاً إلى منزلة مخلوق آخر؟!
وها هم الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما.
فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟
أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في الحسين والبدوي وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكفر؟
وقد أجمع العلماء على كفر بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر وكانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون الجمعة والجماعات ويدعون أنهم مسلمين، ولكن ذلك لم يمنعهم من حكم المسلمين عليهم بالردة حين أظهروا مخالفة المسلمين في أشياء دون التوحيد حتى قاتلوهم واستنفذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
وإذا كان الأولون لم يكفروا إلا حين جمعوا جميع أنواع الكفر من الشرك والتكذيب والاستكبار فما معنى ذكر أنواع من الكفر في (باب حكم المرتد).
كل نوع منها يكفر حتى ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب، فلولا أن الكفر يحصل بفعل نوع منه وإن كان الفاعل مستقيماً في جانب آخر لم يكن لذكر الأنواع فائدة.
وأن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر مع أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويوحدون، فقال الله تعالى فيهم: ((يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ)) [سورة التوبة:74].
وأن الله تعالى حكم بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فقال الله تعالى فيهم: ((قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)) [سورة التوبة: 96].
ومن الدليل على أن الإنسان قد يقول أو يفعل ما هو كفر من حيث لا يشعر قول بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم لموسى عليه الصلاة والسلام: ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) وقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" فقال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [سورة الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم".
وهذا يدل على أن موسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام قد أنكروا ذلك غاية الإنكار.
الشبهة العاشرة
قولهم: في قول بني إسرائيل لموسى ((اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) وقول بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" إن الصحابة وبني إسرائيل لم يكفروا.
جواب الشبهة العاشرة
أن الصحابة وبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك حين لقوا من الرسولين الكريمين إنكار ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا.
الشبهة الحادية عشر
قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: "لا إله إلا الله"، وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها.
جواب الشبهة الحادية عشر
أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله.
وأن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويدعون أنهم مسلمون.
وأن الذين حرقهم علي بن أبي طالب كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله.
وأن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل، ولو قالها.
فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟
وأما حديث أسامة الذي قتل فيه من قال لا إله إلا الله حين لحقه أسامة ليقتله وكان مشركاً، فقال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة لظنه أنه لم يكن مخلصاً في قوله وإنما قاله تخلصاً فليس فيه دليل على أن كل من قال: لا إله إلا الله فهو مسلم معصوم الدم، ولكن فيه دليل على أنه يجب الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك ينظر في حاله حتى يتبين، والدليل قول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ)) [سورة النساء:94] أي فتثبتوا، وهذا يدل على أنه إذا تبين أن الأمر كان خلاف ما كان عليه فإنه يجب أن يعامل بما يتبين من حاله، فإذا بان منه ما يخالف الإسلام قتل ولو كان لا يقتل مطلقاً إذا قالها لم يكن فائدة للأمر بالتثبت.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " فإن معنى الحديث أن من أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين أمره، لقوله تعالى: ((فَتَبَيَّنُواْ)) لأن الأمر بالتبين يحتاج إليه إذا كان في شك من ذلك، أما لو قال: لا إله إلا الله بمجرده عاصماً من القتل فإنه لا حاجة إلى التبين.
واعلم أن الذي قال لأسامة: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله"، وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..." هو الذي أمر بقتال الخوارج وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" مع أن الخوارج يصلون ويذكرون الله ويقرؤون القرآن، وهم قد تعلموا من الصحابة رضي الله عنهم ومع ذلك لم ينفعهم ذلك شيئاً، لأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يجاوز حناجرهم".