يرى بعض المفكرين أننا في نكبة 1967 دفعنا ثمن الجهل بعدونا؛ ولذلك انتشرت دعوة "اعرف عدوك"، وأصبحنا نرى الآلاف من الكتب والوثائق المؤلفة والمترجمة عن اليهود والصهيونية، وعن الدويلة التي زرعها الاستعمار، ووسط فيض المطبوعات الصادرة مؤخرًا بعد انتفاضة الأقصى يبرز على نحو خاص كتاب "القدس في اليهودية والمسيحية والإسلام" تأليف "سامي محمد عبد الحميد"، والكتاب حصيلة متابعة دءوبة من المؤلف لعدد من كتابات المؤلفين الأجانب، وتفنيد موفق لما أودعوه فيها من أكاذيب ومغالطات.
عبد الملك وقبة الصخرة
ومن تلك المغالطات ما قيل حول تاريخ المسجد الأقصى خاصة ما زعمه "أميكام إيلاد" المؤرخ المتخصص في الإسلام بالجامعة العبرية، في كتاب له بالإنجليزية عام 1995 عن "القدس في العصر الوسيط والعبادة الإسلامية"، من أن "عبد الملك بن مروان" بنى مسجد قبة الصخرة لأسباب سياسية؛ لمنع المسلمين في الشام من الحج إلى مكة المكرمة حتى لا يتعرضوا لضغوط قد تجعلهم يبايعون منافسه "عبد الله بن الزبير" بالخلافة.
وأن ابن شهاب الزهري "لفق" أو فبرك حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة لصالح عبد الله بن مروان لمواجهة ابن الزبير الذي أراد إرغام الحجيج على مبايعته.
ولاحظ المؤلف بعد تتبع أصحاب هذا الرأي من المستشرقين أن المرجع الوحيد الذي ينتهون إليه في هذا الزعم هو تاريخ اليعقوبي. ويثبت المؤلف ببحثه الموضوعي أن اليعقوبي كان متشيعًا لا يعترف أصلا بخلافة أحد غير الشيعة، وأن روايته عن بناء عبد الملك لقبة الصخرة ترجع لأسباب سياسية وتصبح موضع شك، ويكشف ما فيها من تناقض مع حقائق أخرى أوردها اليعقوبي نفسه. ولم ينس المؤلف سامي عبد الحميد تخصيص فصول قصيرة لتبرئة "ابن شهاب الزهري"، ولتأكيد صحة حديث المساجد الثلاث الوارد في صحيح البخاري.
حكاية القبة الخضراء
وثمة فرية أخرى مشابهة يتصدى لها المؤلف، وتتخلص في الادعاء بأن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور بنى قبة من ذهب لينافس بها المسجد الحرام، وأنه لما أفضى الأمر إلى بني العباس وأراد المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أمر الفرس؛ لأنهم أنصاره، وكان من مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين بنى بناءً سماه "القبة الخضراء" ليحج الناس إليها بدلا من الكعبة.
وبالأسلوب نفسه فنّد المؤلف الدعاوى الكاذبة بحجج قوية ومنطق سليم، فمن ناحية أورد أن المنصور هو الذي قتل أبا مسلم الخراساني، فكيف إذن أراد إعظام أمر الفرس، ومن ناحية كيف يسوغ للمنصور أو غيره تصغير شأن الكعبة، وهو إنما يستمد شرعية حكمه من كونه إمامًا للمسلمين؟!.
ولا يفوتنا أن كل تلك المزاعم التي دسها اليهود وحلفاؤهم في مؤلفاتهم تهدف في نهاية الأمر إلى تجريد القدس والمسجد الأقصى من أية خصوصية دينية للمسلمين؛ تمهيدًا لانتزاعها.
المزمور (137)
والكتاب يتتبع أيضا البواكير الأولى للفكر الصهيوني منذ المزمور (137) الذي يشير إلى سقوط أورشليم سنة 587 ق.م والسبي البابلي لليهود، ويؤكد المزمور أن عبادة الله لا تتم إلا في أورشليم، ويقول: "فلتشل يميني إن نسيتك يا أورشليم".
ويناقش المؤلف أيضا دراسات مهمة كتبها باحثون معاصرون عن الصهيونية، ويورد فصولا أخرى عن "صلاح الدين" بطل حطين، وعن دولة الخزر الجديدة، وعن الملك الكامل وفردريك الثاني، وعن مستقبل القدس، ثم يسرد مصادره ومراجعه التي تقترب من الخمسين في اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية.