الوجه الآخر للجمال .. رؤية إسلامية
الملاحظ في القرآن الكريم أنّه لم يتحدّث عن الجمال كقيمة ، وأنّه لم يتحدّث عنه في النسـاء ، بل تحدّث عنه في الرجال . فهذا «يوسُف» الذي خلب لبّ ( زليخا ) إمرأة العزيز التي شغفها حبّاً ، كان شابّاً جميلاً في منتهى الحسن والجمال ، حتّى أنّ نسوة المدينة قطّعن أيديهنّ لمرآه ، وهو يطلّ عليهنّ بوجهه الملائكي الباهر الحسن .
«يوسُف» نفسُه لم يلتفت إلى جماله كقيمة ليُصـاب بالغرور كونه أجمل أهل الأرض جميعاً ، ولم يستسلم للإغراء بوحي من أنّه محبوب ومطلوب لجماله ، فلقد تحدّث القرآن عن جمالات أخرى في «يوسف» ، تحدّث عن عفافه واعتصامه بحبل الله ، وعن أمانته ودعوته لله ، وعن تأويله للرؤيا ، وعن قدرته في إدارة الخزينة ، ليلفت انتباهنا إلى أنّ القيم الحقيقية والجمال الحقيقي الذي قد يفنى الجمال الظاهريُّ ويبقى هو هذه القيم التي لا ينبغي أن يشغلنا حسنُ يوسف أو أي جميل وجميلة عن التفكير بها ..
فالحسنُ ـ أي حسن الخلقة ـ هو هبة الله لعبده ولا إرادة للعـبد فيه ، أمّا حُسن الخُلُق فهو صناعة الإنسان نفسه ، وتتويج من توفيق الله وهدايته ، ولذا فإنّ الحسن الثاني أدعى إلى الإعجاب والثناء من شيء لا دخل لنا فيه إلاّ بمقدار ما ندخله من بعض التحسينات الطفيفة ، أي أنّ مجال الحسن الأوّل ضيّق محدود ، وأمّا مجال الحسن الثاني فواسع عريض ، وقابل للتنمية والإثراء والتطوير .
إبحث عزيزي الشاب ..
إبحثي عزيزتي الشابّة .. عن الوجه الآخر للجمال ..
وسترون أنّ الفضائل كلّها ـ بلا استثناء ـ جميلة ، وأنّ الرذائل كلّها ـ بلا استثناء ـ قبيحة ، وقد نختلف في تقييم جمال فتاة أو وسامة شاب لأنّ لكلّ أمّة مقاييسها فيما هو الجمال ، ولأنّ الجمال الظاهري أمر نسبيّ ، لكنّ الأمم لا تختلف في أنّ الحبّ جمال ، والعفو جمال ، والعفّة جمال ، والمعروف جمال ، والخير جمال ، والحقّ جمال ، والتعاون جمال ، والكرم جمال ، والشجاعة جمال ، والتواضع جمال ، والإحسان جمال .
كما أنّها لا تختلف في أنّ الكذب قبيح ، وأنّ السرقة قبيحة ، وأنّ الاعتداء على الشرف قبيح ، وأنّ التكبّر والتجبّر قبيحان ، وأنّ العدوان على السلامة الخاصّة والعامّة قبيح ، وأنّ التلاعب بالقانون ومخالفة الأنظمة قبيح ، وعقوق الوالدين قبيح ، والغش قبيح .
هناك معايير للجمال مغفولٌ عنها ، أو لا يعيرها الناس كثيراً اهتماماً لأنّهم اعتادوا النظر إلى الجمال من زاوية الشكل والإطار الخارجي فحسب ، فمن هذه المعايير:
1 ـ جمالُ الحِلم : «جمالُ الرجل حِلمُه» ..
2 ـ جمالُ الوقار : «جمالُ الرّجل الوقار» .
3 ـ جمالُ الورع : «جمالُ المؤمن ورعه» .
4 ـ جمالُ الطاعة : «جمالُ العبد الطاعة» ..
5 ـ جمال اجتناب العار : «جمالُ الحرّ تجنّب العار» .
6 ـ جمالُ القناعة : «جمالُ الغني القناعة» .
7 ـ جمالُ التفاني : «جمالُ الإحسان ترك الامتنان» .
8 ـ جمالُ التمام : «جمالُ المعروف إتمامه» .
9 ـ جمالُ العمل : «جمالُ العالم عمله بعلمه» .
10 ـ جمالُ النشر : «جمالُ العلم نشره» .
11 ـ جمالُ العقل : «لا جمال أحسن من العقل» .
12 ـ جمالُ البـيان : «صورة المرأة في وجهها ، وصورة الرجل في منطقه» .
من هذه الباقة الجميلة من المعايير ، يمكن أن نستخلص المقاييس التالية للجمال :
1 ـ الجمال العبادي : وهو الورع ، والطاعة ، واجتناب العار ، والتناغم بين السرّ والعلن ..
2 ـ الجمال العلميّ : العمل بالعلم، ونشر العلم، أي أن لا يكون العلم محفوظاً في الصدور والعقول كما يحفظ المال في الصناديق المقفلة ، فـ «زكاة العلم أن تعلّمه من لا يعلمه» .
3 ـ الجمال الاجتماعي : وهو (الحِلم) و (الوقار) و (المعروف) .
وهناك لفتة مهمّة في هذا الإطار لو أخذناها بعين الاعتبار ، فالله سبحانه وتعالى ، وهو خالق الجمال وواهب الجمال للنساء وللرجال سوف لا يُدخل أشكالنا وجمالنا الظاهري في قائمة حسابنا يوم القيامة ، ففي الحديث : «إنّ الله لا ينظر يوم القـيامة إلى وجوهكم وإلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» . ولو نظر إلى جمالنا الظاهريّ لاحتجّ الدميمون والمعوّقون والمنغوليون والمشوّهون وأصحاب العاهات ، فلم ندخل في حسابنا ما لم يدخله الله في حسابنا ؟!
كما أنّنا حينما نقرأ الحديث الشريف «رحم الله امرأً عمل عملاً فأتمّه وأتقنه» فإنّنا نعرف أنّ تمام الشيء وإتقانه جمالٌ لا يشذّ عن ذلك عملٌ معنوياً كان أم مادّياً .
فضلاً عن ذلك كلّه، فقد دعا القرآن الكريم إلى محاسن كثيرة ينبغي التنبّه إليها والأخذ بها ما اسـتطعنا إلى ذلك سـبيلاً ، كالعمل الحسن والعمل الأحسن في قوله تعالى :
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاَْرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .
والأسلوب الأحسن :
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَـنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) . ( فصلت / 34 )
والقول الأحسن :
(وَمَنْ أَحْسَـنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ ) . ( فصلت / 33 )
والدين الأحسن :
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) .( النساء / 125 )
والتحية الأحسن :
(وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ) . ( النساء / 86 )
كما جاء الجمال وصفاً للأخلاق كالصبر الجميل :
(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) . ( المعارج / 5 )
والصفح الجميل :
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) . ( الحجر / 85 )
والسراح الجميل :
(فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ) . ( الأحزاب / 49 )
والهجر الجميل :
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) . ( المزمل / 10 )
«مرّ عيسى (عليه السلام) مع حوارييه على كلب ميت أنتنت جيفته ، فقال الحـواريون : ما أنتن جيفة هذا الكلب ! فقال عيسى (عليه السلام) : ما أشدّ بياض أسنانه» . لقد التفتوا إلى (القبح) والتفت عيسى (عليه السلام) إلى (الجمال) .
وفي المثل «الدجاجة السوداء تضع بيضاً أبيض» و «البقرة السوداء تدرّ حليباً أبيض» .
وقديماً قيل :
ومن يـك ذا فم مرٍّ***يجد مرّاً به الماء الزلالا
وقال آخر :
عينُ الرضا عن كلّ عيب كليلة ***وعينُ السخط تبدي المساويا
ألا يحدث أحياناً أن نخلع الجمال على ما نحبّ ونرضى ، ونخلع القبح على ما نكره ونغضب ؟ وهذه النظرة الإسقاطية لا تمثّل الجمال ولا تمثّل القبح ، فالجميل يبقى جميلاً حتّى وإن لم يرق لنا ، والقبيح يبقى قبيحاً حتّى وإن راق لنا .
لنبحث إذاً عن الوجه الآخر للجمال ، فهو الجمال الحقيقي المعوّل عليه ، وهو الذي يجلب من السرور ما لا يجلبه الجمال الصوري . تأمّلوا معنا قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اطلبوا حوائجكم عند حسان الوجوه ، فإن قضى حاجتك قضاها بوجه طليق ، وإن ردّك ردّك بوجه طليق ، فربّ حسن الوجه دميمه عند طلب الحاجة ، وربّ دميم الوجه حسنه عند طلب الحاجة» .
ألم تصادفكم في الحياة أمثال هذه الوجوه الحسنة الشكل القبيحة الفعل ، أو الدميمة في الشكل الحسنة في الفعل ؟ ولكن هذا لا يمنع ولا ينافي من أن يكون الفعل أحياناً مطابقاً للشـكل وزيادة الخير خير وزيادة الجمال جمال .