الحمد لله رب العالمين ، أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والصلاة والسلام على النبي الأمي الكريم وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد :
فإن الله قد أحاط بعلم الغيوب كلها وهو شاهد على علم الشهادة كله لهذا قال الله تعالى عن نفسه (عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) وقال الله جل وعلا : (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) [سورة التوبة : 78] . (فالغيب : ما غاب عن الناس ، والشهادة : ما شهدوه وأبصروه وعاينوه ، فعلم الله سبحانه وتعالى تام ، وكامل ، ومحيط بكل شيء ، لم يسبقه جهل ، ولا يلحقه نسيان (وماكان ربك نسياً) [سورة مريم : 64 ]، (وأحاط بمالديهم وأحصى كل شيء عدداً) [سورة الجن : 28]. يقول الله سبحانه : (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً) [سورة طه : 98] ، ويقول : (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً) [سورة الفرقان : 6]. فما من قول ولا فعل في السر ولا في الجهر ، في السماء ولا في الأرض ، في البحر المحيط الواسع ، أو في الفضاء البعيد العالي إلاَّ يعلمه سبحانه وتعالى بتفاصيله .
أحاط علمه بالحبة في ظلمات الأرض ، وبالورقة الساقطة فيها ، وبالرطب واليابس ومثل ذلك وأعظم منه علمه بمكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، ومافي البر من مثاقيل الجبال وعدد حبات الرمال ، كل ذلك أحاط به الله جل جلاله وتباركت أسماؤه إحاطة كاملة فـ(لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) [سورة سبأ :3] . أحصاه الله وكتبه في كتاب لايضل ربي ولاينسى . يقول تعالى : (وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم مافي البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولايابس إلا في كتاب مبين) .
وقد حضيت صفة العلم في نصوص القرآن بمكانة خاصة ؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً شديداً بمسؤولية الإنسان، ووقوفه أمام الله جل وعلا ، وما ينبني عليها من الإحساس بمراقبة الله على أعمال الإنسان الظاهرة والباطنة ، ولذلك نجد الإشارة إليها تتخلل آيات القرآن من أوله إلى آخره ، مع التركيز على علم الله لأفعال العباد ، حسنها وسيئها ، لكي يظل إيمان الإنسان بها قائماً في أعماق النفس ، وباعثاً له على تجويد العمل ، والإحسان في القصد ، ثم يربط بين الاعتقاد بهذه الصفة وبين السلوك البشري الصحيح ، يقول سبحانه وتعالى :(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن غفورحليم) [سورة البقرة : 235 ] ، ويسوق الحديث عن العلم الإلهي المحيط مشفوعاً بما يترتب عليه من إحصاءٍ للأعمال ، ومن محاسبة عليها ، ومن مجازات بالنعيم والجحيم (وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) [ سورة البقرة : 284 ] (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم مافي السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير * يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) [ سورة آل عمران : 29 و 30 ].
وتأتي الآيات الكثيرة في كتاب الله ؛ لتذكر بأن ّالله عالم بالعباد ، وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وشقائهم وسعادتهم ، ومن يكون منهم من أهل الجنة ، ومن يكون منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم ويخلق السموات والأرض . فهو سبحانه وتعالى عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ ، لم يَزَل عالِما ولا يَزال عالما بما كان وما يكون ، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء ، أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء باطِنِها وظاهرها ، دقِيقها وجليلها [1].
وقد اشتملت الآيات على مراتب العلم الإلهي ، وهو أنواع :
أولهـا : علمه بالشيء قبل كونه ، وهو سر الله في خلقه ، اختص الله به عن عباده .
وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير ومفتاح ما سيصير ، ومن هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير ؟ فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل ، كما قال تعالى : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الأرحام وماتدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) [لقمان:34] ، وقال سبحانه : (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلأالله وما يشعرون أيان يبعثون) . [النمل:65] .
ثانيـها : علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته .
فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير ، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير ؟ كما قال تعالى : (ألم تعلم أن الله يعلم مافي السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير) [الحج:70] ، وقال أيضا : (من ما أصاب من مصيبة في الأرض ولافي أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)[الحديد:23] .
ثالثـها : علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه ، كما قال : (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وماتزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) [الرعد:8] ، وقال تعالى : (يعلم مايلح في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) [سبأ:2] .
رابعـها : علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه .
فالله عز وجل بعد أن ذكر مراتب العلم السابقة في قوله تعالى : (وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو ويعلم مافي البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولايابس إلا في كتاب مبين) [الأنعام:59] ، ذكر بعدها المرتبة الأخيرة فقال : (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ماجرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون). [الأنعام:60] ، وقال أيضا : (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ) [قّ:4] ، وقال : (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) [التوبة:78][2] .
الآثـار الإيمانيــة :
من الأثــار :
أن يتيقن المؤمن دائماً أن الله عليم بما يصنعه بجوارحه ، وما يعزم عليه في قرارة نفسه ، علماً يجعله دائماً نزَّاعاً للطاعات ، مسارعاً للخيرات ، مجانباً للسيئات ، مراقباً لنفسه بنفسه ، وحذراً من نفسه على نفسه ، فيحقق المراقبة لله سبحانه وتعالى وبدوام ذلك والمجاهدة عليه يترقى المؤمن من درجة الإيمان إلى مرتبة الإحسان وهي ((أن تعبد الله كأنك تراه)) [3] وفي لفظ لمسلم ((أن تخشى الله كأنك تراه)) [4] ؛ لأن هناك علاقة قوية يبرزها القرآن بين الإيمان بعلم الله ، وبين الامتناع عن الإثم ، والفسوق ، والعصيان ، وبين المسارعة في أعمال البر والطاعة ، قال الله سبحانه : (ولاتجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لايحب من كان خوانا أثيماً * يستخفون من الله ولايستخفون من الناس وهو معهم إذ يبيتون ما لايرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً) . [النساء 107-108].
والغفلة عن هذا المعنى تجعل الإنسان يقتحم بحر الذنوب العميق ، ويخوض غماره خوض الجسور لاخوض الجبان الحذور ، وتجعله يتوغل في كل مظلمة ، ويتهجم على كل مشأمة ، فإذا بلغ علمه اليقين الجازم أن الله يطلع على خفايا الإنسان ، ويحاسبه عليها ، ويجازيه حتى على نياته ، ويراقبه حتى على خلجاته ؛ ورث الهيبة من قربان حدودها ، فبقدر قوة إيمان الإنسان بسعة علم الله تزداد خشيته ، ويعظم ورعه ، ويحسن عمله ، وترتدع نفسه ، وبقدر ضعف إيمانه وجهله بذلك يكثر زلله ، ويتوالى انحرافه .
والله المستعان .
إنّ يقين المؤمنِ بأن الله يعلم أحواله ، سرها ، وعلنها ، يحمله على التهيب من الإقدام والجرأة على حدود الله واقتحام حرماته حياء منه سبحانه ، فالزوج الذي يتذكر هذه الرقابة الدائمة لايخون الله ولايخون زوجته ، والمرأة المراقبة لله لا تضيع أمانة زوجها وشرفه ، والأجير لا يسرق من مال صاحبه ؛ لأن الجميع يعلمون أن الله يعلم ما في أنفسهم فيحذروه .
فمهما تكن عند من امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فلا تكتمن الله مافي نفوســـكم *** لتخفى ومهما يكتم الله يعلم
يوخر فيوضع في كتــاب فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينقم [5]